
المقدمة
۱ – ثمة قاعدة تسود كل مجتمع متمدين مؤداها أنه لا يجوز للمرء أن يقتضى حقه بنفسه “ Nul ne peut se faire justice a soi meme “ وهي قاعدة عالمية التطبيق، إذ تطبق في كل دولة بوليسية كانت أم ديمقراطية ، وطبقا لهذه القاعدة لا يجوز للدائن أن يقتضى حقه بنفسه جبرا عن مدينه المماطل ، حتى ولو كان هذا الحق ثابتا ومؤكدا في سند تنفيذي، وإنما يجب على الدائن أن يستعين بالسلطة العامة لاستيفاء حقه، وفقا لقواعد وإجراءات معينة، نظمها الشارع لتكفل دون شطط حصول الدائن على حقه .
2- ولذلك لا يقتصر دور القضاء في الدولة الحديثة على مجرد إصدار حكم يؤكد حق الدائن ، بل يمتد إلى التنفيذ، مستهدفا تغيير الواقع العملي وجعله متوائما مع هذا الحكم أو أي سند تنفيذي آخر يتبلور فيه حـــــق الدائن ويمنحه القانون القوة التنفيذية، ومن ثم لا يصبح حق الدائن وهما لا قيمة له بل يصبح واقعا ملموسا رغم إرادة المدين التي قد تسودها روح المماطلة والتقاعس عن الوفاء .
3- وتبدو مهمة الشارع في وضع قواعد وإجراءات التنفيذ في غاية الصعوبة والدقة، اذ يقتضى فن التشريع منه أن يوفق بين المصالح المتناقضة للأفراد، فهو يحاول التوفيق بين مصلحة الدائن في تنفيذ سريع لحقه الذى يعاني مرارة الحرمان منه ويضج من عنت مدينه ومماطلته، ومصلحة المدين في حمايته من أي عسف يقوم به الدائن عند التنفيذ بحيث لا تهدر كرامته ولا يجرده دائنة من كل أمواله ومن ثم يجعله عالة على المجتمع، وإذا كان من الواجب عدم تصور الدائن دائماً بأنه رجل ثرى يتسلط على مدين فقير، لأن الواقع يؤكد أن هناك كثيراً من الدائنين في حاجة إلى ديونهم أكثر من أيضاً أن تنظم قواعد التنفيذ بحيث تتضمن حماية كافية للمدين، وأن تكون خالية من القسوة ، ومن كل ما يتنافى مع كرامة الإنسان المدين فإنه يجب وحريثه .
كما أن الشارع عند وضعه لقواعد التنفيذ ينظر بعين الاعتبار أيضاً للمصلحة العامة للمجتمع ، لأن لهذه القواعد أهمية بالغة، فهي ذات طابع عملي لا يمكن تجاهله وذات تأثير فعال في مصالح الأفراد وممتلكاتهم ، فهى أكثر قواعد القانون التصاقاً بالواقع المادي، ولذلك ينعكس تنظيم المشرع لها على المعاملات في المجتمع ككل، فإذا كانت هذه القواعد سهلة التطبيق ومحكمة فإن روح الاطمئنان سوف تسود الدائنين ومن ثم تتحقق الثقة في الائتمان ويزدهر الاقتصاد، بينما إذا كانت هذه القواعد معقدة يحوطها الغموض بحيث لا يستوفى الدائن حقه إلا بعد إجراءات طويلة تكبده تكاليف باهظة قد تتجاوز أصل حقه، فإن حركة المعاملات في المجتمع سوف تنكمش، إذ سيتردد الأفراد كثيراً قبل التعامل محافظة على أموالهم.
ومع ذلك فإنه حتى لو بلغ التشريع غاية الدقة والإتقان ، فإن التنظيم التشريعي لقواعد التنفيذ لن يكفي لتحقيق الأهداف المرجوة منها، لأن التنفيذ رغم كونه علما له أصوله وقواعده إلا أنه كما لاحظ البعض – بحق – فن في التطبيق، فالتنفيذ كفن يتجلى فى الممارسة العلمية التي يقوم بها . الدائنون والمدينون والقاضي في ظل القواعد التشريعية، فالدائن يحاول استخدام قواعد القانون لاقتضاء حقه، بينما يحاول المدين تجاهل هذه القواعد أو على الأقل عرقلة إجراءات التنفيذ التي قد تتخذ ضده، ويلعب كل منهما أدواراً لتحقيق مصلحته الخاصة التي تتناقض مع مصلحة الآخر، فهذا يحاول اقتضاء حقه وذاك يحاول الخلاص منه ولا تنتهي مهمة المشرع بمجرد وضع قواعد التنفيذ لأن هناك صراعاً خفياً ينشأ بين الأفراد والمشرع ، فهم يحاولون الإفلات من هذه القواعد بالتسلل من ثغرات ما نسجه المشرع حولهم من ضوابط وقيود، أو يحاولون استغلال هذه القواعد ذاتها لتحقيق مآربهم الشخصية بصرف النظر عما ترمى إليه هذه القواعد من أهداف ، وهو يحاول أن يلاحقهم بما يضعه من قواعد أو ما يدخله من تعديلات على هذه القواعد ليكبح جماحهم ويقي بعضهم شر البعض الآخر .
4 – ومهما بلغت مهارة المشرع فإنه لا يستطيع أن يتخيل كل ما قـــد يتفتق عنه تفكير الأفراد ، وما قد يبتكرونه من حيل ووسائل لتحقيق مآربهم الخاصة وتجاهل القواعد القانونية ، إلا إذا وجد العون من القاضي الذي يستطيع متى نفذ إلى روح قانون التنفيذ وتشبع بفلسفته أن يفرض سلطان المشرع ، وأن يجعل إرادته أقوى من نزوات الأفراد، ومن ثم تحقق قواعـــــــد التنفيذ الأهداف التي ترمي إليها .
5 – ولا يقل دور الفقه فى أهميته عن دور القضاء في هذا الصــــــد، اذ لا يقتصر دور الفقه على مجرد عرض قواعد التنفيذ، بل يكشف عيوب التشريع ، وما به من ثغرات أظهرها التطبيق العملي ، ويقترح الحلول اللازمة لكل ما ينتج من مشاكل ، وبذلك يضئ الفقه الطريق أمام كل من المشرع والقاضي ، فيحقق القانون فاعليته في المجتمع وتتحقق غاياته وقد لاحظ البعض في الفقه أن التنفيذ يؤدى إلى إنشاء مركز قانوني له أطرافه ومحله وسببه ، إذ تتولد عن التنفيذ بعض الآثار القانونية، فطالب التنفيذ يكون له بعض الحقوق كما تقع على عاتقه بعض الالتزامات ، والمنفذ ضده يؤدى التنفيذ إلى تحمله ببعض الالتزامات كما يكون له بعض الحقوق أيضاً ، بل أن التنفيذ قد ينشئ بعض الالتزامات على عاتق الغير ومثال ذلك التزامه بالتقرير بما في ذمته عند توقيع الحجز على ما للمدين لديه، بل أنه قد يلتزم بدفع مقدار الدين المحجوز من أجله وذلك إذا لم يقرر بما في ذمته على الوجه وفى الميعاد المبينين في المادة ٣٣٩ مرافعات أو قرر غير الحقيقة أو أخفى الأوراق الواجب عليه إيداعها لتأييد التقرير
وكون المركز الناشئ عن التنفيذ مركزاً قانونياً يعنى أنه ليس مركزاً واقعياً ، لأن التنفيذ ليس عملاً مادياً، وإنما هو مجموعة من الإجراءات المتتابعة التي نظمها القانون والتي ترمي جميعها إلى تحقيق غاية واحدة هي اقتضاء الدائن لحقه جبراً من مدينه المتعنت ، كما أن ذلك يعني خروج التنفيذ عن النطاق العقدي أو شبه العقدي، إذ بالرغم من كونه مركزاً فردياً إلا أن كافة الحقوق والالتزامات الناشئة عنه مصدرها القانون وحده .
6- والقواعد العامة المنظمة لهذا المركز القانوني تمثل في اعتقادنا الأصول العامة للتنفيذ الجبري ، وهذه القواعد تنظم الحق الموضوعي الذي يجرى التنفيذ لاقتضائه والسند التنفيذي الذى يتبلور فيه هذا الحق ، وأشخاص التنفيذ ومحل التنفيذ الجبري ، والإجراءات التي تسبق التنفيذ أي مقدمات التنفيذ وسوف نتناول توضيح هذه القواعد وأيضاً القواعد المنظمة لطرق التنفيذ المختلفة ، ومنازعاته الموضوعية ومنازعاته الوقتية أي إشكالات التنفيذ، وسوف نوضح أيضا قواعد توزيع حصيلة التنفيذ، وذلك من خلال التعليق على نصوص قانون المرافعات التي تضمنت هذه القواعد ، وسوف يشمل هذا التعليق بيان المذكرة الإيضاحية للقانون وتقرير اللجنة التشريعية بمجلس الشعب مع توضيح آراء الفقهاء وأحكام محكمة النقض المتعلقة بكل نص ، ونظراً للطابع العملي لهذا المؤلف فسوف يجد القارئ فيه ما هو غير مألوف في كتب الفقه ، من حشد لأحكام النقض وإشارة لأهم الصيغ القانونية لأوراق ودعاوى التنفيذ ، إذ الصبغة العملية هي الغالبة على هذا المؤلف.